سورة الليل - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الليل)


        


{فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}
قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ} أي حذرتكم وخوفتكم. {ناراً تَلَظَّى} أي تلهب وتتوقد. وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. {لا يَصْلاها} أي لا يجد صلاها وهو حرها. {إِلَّا الْأَشْقَى} أي الشقي. {الَّذِي كَذَّبَ} بنبي الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَتَوَلَّى} أي أعرض عن الايمان.
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى.
وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى} وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: {إِلَّا الْأَشْقَى} إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى} أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.
وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: {لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الارجاء بالارجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر، لقوله جل ثناؤه: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وليس الامر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به.
وقال جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فائدة، وكان وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ كلاما لا معنى له. الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي الله عنه.


{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)}
قوله تعالى: {سَيُجَنَّبُهَا} أي يكون بعيدا منها. {الْأَتْقَى} أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله تعالى.
وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله: {الْأَتْقَى} و{الْأَشْقَى} أي التقي والشقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد، وتوضع أفعل موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] بمعنى هين.


{وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)}
قوله تعالى: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي {وَلَسَوْفَ يَرْضى} أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: «عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد، فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحد- يعني الله تعالى- ينجيك ثم قال لأبي بكر: يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه». فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده، فنزلت: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ} أي عند أبي بكر {مِنْ نِعْمَةٍ}، أي من يد ومنة، {تُجْزى} بل ابْتِغاءَ بما فعل {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى}.
وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4].
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لابي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لابي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له ماله، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزلت: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ} أي لكن ابتغاء، فهو استثناء منقطع، فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب {إلا ابتغاء وجه ربه} بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها *** إلا الجآذر والظلمان تختلف
وقول القائل:
وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس
وفي التنزيل: {ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] وقد تقدم. {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} أي مرضاته وما يقرب منه. والْأَعْلى من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون {ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} مفعولا له على المعنى، لان معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. {وَلَسَوْفَ يَرْضى} أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي، وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق.
وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رحم الله أبا بكر! زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله». ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي الله عنه.
وقال عطاء- وروى عن ابن عباس: إن السورة نزلت في أبي الدحداح، في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء.
وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة، ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «تبيعها بنخلة في الجنة؟ فأبى، فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها بحسنى: حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: نعم، والذي نفسي بيده فقال: هي لك يا رسول الله، فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جار الأنصاري، فقال: خذها فنزلت {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} [الليل: 1]» إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى} يعني أبا الدحداح. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى}: يعني الجنة. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى} يعني الأنصاري. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى}، يعني جهنم. {وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى} أي مات. إلى قوله: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى} يعني بذلك الخزرجي، وكان منافقا، فمات على نفاقه. {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} يعني أبا الدحداح. {الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} في ثمن تلك النخلة. {وما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} يكافئه عليها، يعني أبا الدحداح. {وَلَسَوْفَ يَرْضى} إذا أدخله الله الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.
وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لابي الدحداح في سورة البقرة، عند قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245]. والله تعالى أعلم.

1 | 2